728x90 AdSpace

  • Latest News

    الخميس، 22 نوفمبر 2012

    أحمد إبراهيم يكتب: كراسات الموت بقطار أسيوط

    فى كارثة قطار منفلوط راح 60 طفلا يقلَّبون وجوههم من الفزع ويصرخون كما يليق بأحلامهم ثم استكانوا.. وارتدت مصر ثياب حدادها.. وخبأ الصعيد وجهه بين يديه وانتحب.

    ارفعوا عيونكم إلى الصورة التى أمامكم.. ورقة من كراسة لأحد الملائكة الذين رحلوا.. ومعا نقرأ الحضور والغياب الساكن فى كل جزء منها.

    بداية دعكم من الصفحة التى على اليمين، لأنها مكتوبة بالدم ولا تحتاج إلى بيان، فهى أقوى وأعمق من أن نسطحها بالكلمات، ولكل واحد منا على حدة أن يتخيل الذى خطه الدم فى هذه الصفحة.. ولنقرأ معا المكتوب بخط الطفل فى الصفحة المقابلة:

    التاريخ..25/ 9/2012
    موضوع الدرس: الطعما (الطعام)
    جهزت أمى العشاء
    جلسنا نأكل أختى
    وأبى وأمى

    تأملوا هذا الحضور وهذا الغياب القوى فى هذا الدرس.. فقد كان الحضور من خلال "نا الفاعلين" (جلسنا).. وكان الغياب من خلال عدم وجود "أنا"، مع أن تفسير "جلسنا" يكون: أنا وأختى وأمى وأبى.. وهذا له معنيان؛ الأول: أن الطفل سقط منه الضمير "أنا"، وهذا يفتح لنا باب الحديث عن الإشارات والرؤى.

    الثانى: أن يكون الدرس فى المنهج التعليمى لا يحتوى كلمة "أنا، وبهذا يكون الإهمال متعمدا ومقصودا.. ويكون الموضوع أكبر من خطأ "عامل مزلقان" يكون نوعا من التهميش التام للمستقبل.. وعلى هذا تكون المحاكمة.

    ومع هذا ظل الملاك الصغير حاضرا مرة أخرى، لكنه من وراء ستار، وذلك من خلال ضمير المتكلم الذى لحق بآخر الأسماء "أختى، أمى، أبى".

    فى هذا الكارثة كان المشهد أن كل الأدبيات المتعلقة بالمآسى والآلام العظيمة أصبحت حاضرة.. قصيدة صلاح جاهين "الدرس انتهى" التى قالها فى "مدرسة بحر البقر" وأغنية محمد منير "افتحوا يا حمام كراريس الرسم".. الجرائد والبرامج والمجلات تنشر مقططفات من حياة الأطفال الشهداء.. صورة القطار الملطخة بالدم.. الكراريس والكتب الملقاة على الجانبين.. الحصى المستقر بين القضيبين الممتدين.. اللون الأحمر القانى.. البقايا والأشلاء.. الوجوه الحزينة الكالحة الفقيرة المشردة للصعايدة.. العيون المنداة بالدمع.. الأسماء المتشابهة للضحايا.. الجلوس حزانى حيثما كان المكان.. عدم القدرة على الحركة.. الاندهاش الذى لا ينتهى.. السقوط بجانب القطار المجنون الذى لعق دم الصغار.. المستشفيات والإهمال.. الأمهات غير المصدقات للحادثة.. الآباء الذين هزتهم الفاجعة فبكوا وانتحبوا متخلين عن جلدهم، يفتح الواحد منهم يديه ويقبضها على هواء.. الهواء الخالى من الأكسجين.. المسئولون الذين سارعوا بتبرئة أنفسهم بالتعليق على الحادثة.. الملائكة السابحون فى الفضاء.. والمصريون المصلوبون فى الفراغ.. هذا هو المشهد الذى حدث.

    الغريب أنه دائما ما يكون الصعيد على قَدَر مع الفجائع والكوارث التى تحط عليه من حيث لا يدرى، مطالب هو أن يتحمل أخطاء الآخرين.. وأن يحمل أوزارهم كما يحمل السيد المسيح أوزار الخطاة.. الكارثة فى الصعيد أنه يدفع ذلك من كنزه الوحيد الحقيقى الذى لا يملك غيره.. يدفعه من "أبنائه".. والصعيد لا يملك سوى أطفال يكبرون غدا كى يكونوا "مقاليع فقر" كما يقول المثل الصعيدى.. يبنى أحلامه وآماله على وجودهم ثم ينام الضمير المصرى كى يستيقظ على فاجعة فى قلب الصعيد الذى هو قلب مصر.

    هذه الحادثة تحولت نظرا لملابساتها وظروفها إلى "بحر بقر جديدة".. فكل الذين علَّقوا أو تناولوا الحادثة طلت من أفواههم تشبيهات وكنايات واستعارات متعلقة بمدرسة بحر البقر، وهذا الربط لم يأت من فراغ فهناك عوامل كثيرة دفعت لهذا الربط منها:

    الأطفال: هؤلاء الملائكة الذاهبون لمدرستهم فى صباحهم ما الذى كان يدور فى رؤوسهم وما أحلامهم وما خططهم.. يتشابهون مع أطفال مدرسة بحر البقر فى براءتهم وفى غدر الآخرين.

    العدوان الإسرائيلى على غزة: هذا العدوان له أثر فى تشكيل الصورة، حيث يبعث فى نفوسنا رائحة الدم الذى سال على أرض المدرسة، فالاحتلال الإسرائيلى يقتل الأطفال الآن فى فلسطين، لذا فإن الصورة حاضرة فى أذهاننا.

    النظام الحاكم: ربما أراد الناس أن يربطوا "بوعى أو بدون وعى" بين الذى قام به الصهاينة الإسرائيليون وبين ما يقوم به الإخوان المسلمون الآن، فهم مدانون عن كل الذى حدث بإهمالهم..
    رؤية الكاميرا: فى الحالتين ركزت الكاميرا فى صورتها على مقتنيات الأطفال من كتب وكراسات ملطخة بالدم.

    وفى كل الاستعارات الكبرى وعندما يحدث هذا الربط بين كارثتين، ويتم استدعاء الخطوط الرئيسية والعناصر الكبرى أو يتم البحث عن تشابهات، فإن ذلك كله يدخل فى "الاستعارة الكبرى" الكلية التى يمكن فى داخلها أن نحدد الذى نريد أن نقوله، حيث منفلوط الآن هو مصر والقطار هو الإهمال الذى يمثل النظام القائم. 


    الكاتب أحمد إبراهيم


    • Blogger Comments
    • Facebook Comments
    Item Reviewed: أحمد إبراهيم يكتب: كراسات الموت بقطار أسيوط Rating: 5 Reviewed By: khaled nour
    Scroll to Top